دور جديد لإيطاليا في ليبيا: انتقال من الصف الخلفي إلى الاشتباك الأمامي

0

تشهد الساحة الليبية في الآونة الأخيرة تحركات إيطالية متسارعة في عدة اتجاهات داخلية وخارجية تبعث على التفكير في كيفية إدارة روما لمصالحها المتعددة في هذا البلد، الذي كان أحد أهم مستعمراتها. وتبدو السياسة الإيطالية وكأنها تأخذ اتجاهات تدريجية للانتقال من وضعية الأدوار الدفاعية الخلفية وراء القوى الغربية إلى الأمامية الهجومية كفاعل قيادي في إدارة الأزمة.

ليبيا المستقبل (عن العرب اللندنية): بين تلويح وزير داخلية إيطاليا ماركو مينتي بالمساعدات مقابل التعاون الليبي للحد من الهجرة غير الشرعية، خلال ملتقى عمداء البلديات في طرابلس الخميس الـ13 من يوليو 2017، واحتضان جزيرة صقلية قبلها بأيام قلائل منتدى اقتصاديا إيطاليا ليبيا، تتكشف نسبيا رهانات روما السياسية والأمنية والاقتصادية على حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، كركيزة لمصالحها في غرب وجنوب ليبيا.

وإن كان ذلك لم يمنع تواصل الإيطاليين مع القوى الإقليمية المؤثرة في تحالفات الشرق الليبي والتي مالت لصالحها موازين القوى أكثر، إثر إعلان الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق خليفة حفتر تطهير بنغازي من الإرهابيين في الخامس من يوليو الجاري. وتجلى هذا التواصل مع تحالف الشرق في زيارة وفد برلماني إيطالي إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكذلك اجتماع وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو مع نظيره الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد في أبوظبي خلال هذا الشهر.

تدل التحركات الإيطالية المكثفة على أن ساسة روما باتوا غير مقتنعين بجدوى الأدوار الخلفية التي تركزت حول الاستغلال اللوجستي للقواعد العسكرية الإيطالية القريبة من ليبيا من قبل حلف الناتو لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي في 2011. ومردّ ذلك أن قناعة إيطاليا بهذه الأدوار، في مرحلة سابقة، جاءت نتاجا لعقدة الميراث الاستعماري في ليبيا، والتي أسهمت في ارتباك روما تجاه حملة الناتو وفي عدم التدخل المباشر في المرحلة الانتقالية الليبية، باستثناء الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها.

وتجسد ذلك عندما سعى رئيس الوزراء الأسبق ماريو مونتي إلى إحياء اتفاق برلسكوني مع القذافي في العام 2008، عبر توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة عبدالرحيم الكيب الانتقالية آنذاك في يناير 2012 تتعلق بوضع نظام للسيطرة على الحدود الليبية، وتوفير التدريب الأمني.

وبفشل الاستحقاقات الانتخابية الليبية في عامي 2012 (المؤتمر الوطني العام) و2014 (مجلس النواب) في بناء استقرار سياسي وأمني، لم يكن هنالك مجال لإنفاذ أي اتفاق إيطالي ليبي بخلاف استشعار إيطاليا ثقل التهديد الإرهابي المباشر لسواحلها القريبة من ليبيا بعد بروز تنظيم الدولة الإسلامية في سرت بداية العام 2015، وتعاونه مع شبكات الجريمة المنظمة، بما عظّم تدفقات الهجرة غير الشرعية. ومع ذلك، ظلت السياسة الإيطالية مترددة ونزعت أكثر إلى التعويل على الدور الأممي لمواجهة الإرهاب في هذا البلد أو التوسط لتسوية الأزمة بين المتنازعين، وفق ما ذهب إليه رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي في تصريحاته.

لكن بات من الصعب استمرار التردد الإيطالي، في ظل تنافس قوى إقليمية ودولية على النفوذ المباشر في الداخل الليبي وتضرر تدفقات النفط والغاز والشراكات الاقتصادية والاستثمارية بفعل عدم الاستقرار. كما أن تقزيم داعش ومستنسخاته الإرهابية في ليبيا خلال العام 2016 ارتد في تصاعد ظاهرة الإرهاب الفردي المتنقل (الذئاب المنفردة) باتجاه أوروبا لتمس الداخل الإيطالي، كما برز مع حالة أنيس العامري الذي تورط في حالة دهس في ألمانيا في ديسمبر 2016، ليٌقتل لاحقا في تبادل لإطلاق النار مع شرطة ميلانو.

واللافت أن العامري كان قد سجن في إيطاليا ما بين 2011 و2015 لإضرامه النار في مركز للاجئين، وأفرج عنه ليتوجه إلى ألمانيا بعد أن رفضت تونس تسلمه، علما بأن الأخيرة تملك جالية كبيرة في إيطاليا. وتضيف تلك الحادثة تحديا إلى إيطاليا لجهة اختلاط الإرهاب بالهجرة غير الشرعية في شمال أفريقيا التي تمثل ظهيرا جيوسياسيا للدولة الإيطالية في جنوب وغرب المتوسط. وتزداد وطأة ذلك مع استقبال إيطاليا قرابة 180 ألف مهاجر عبروا البحر المتوسط بمساعدة شبكات تهريب محلية في ليبيا خلال العام 2016.

توغل في الجنوب والغرب

مع ثقل التهديد للمصالح الإيطالية القادمة من ليبيا، تحركت روما للتدخل الأمامي المباشر في هذا البلد. وبرز دورها عندما راهنت على اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، وحشدت لدخول حكومة الوفاق الوطني إلى طرابلس في مارس 2016، برغم عدم نيل الأخيرة لثقة مجلس النواب في الشرق. وكان وزير خارجية إيطاليا آنذاك باولو جنتيلوني أول مسؤول غربي يلتقي السراج في روما في إبريل 2015.

وعلى ضوء معطيات كثيرة بدا أن إيطاليا تركز أدوارها الأمامية في ليبيا على منطقتي الغرب (تدفق الغاز) والجنوب الليبي (تدفق الهجرة)، باعتبارهما الأكثر ملامسة لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية. ولم تتخل عن دورها اللوجستي للعمليات العسكرية الغربية في ليبيا، كما الحال مع توصل روما إلى اتفاق مع الولايات المتحدة في يناير 2016 يقضي باستخدام قاعدة سيجونيلا في صقلية لإقلاع الطائرات الأميركية لمواجهة داعش، إلا أن الحكومة الإيطالية أعلنت عن نشر قوة عسكرية في مصراتة غربي ليبيا في أكتوبر من العام نفسه لأغراض إنسانية لمعالجة جرحى المعارك التي كانت تخوضها آنذاك قوات البنيان المرصوص الموالية لحكومة الوفاق ضد داعش في سرت.

ولأنهم يدركون حساسية الليبيين تجاه أي قوات إيطالية، حرص الإيطاليون على تبرير ذلك بأنه جاء بناء على طلب حكومة السراج، لكن الأمر عرّض روما لعاصفة انتقادات انطلقت سواء من حكومة شرق ليبيا ومجلس النواب والمشير خليفة حفتر، بل ومن حكومة الانقاذ الوطني السابقة التي تنافس السراج في طرابلس. ولم تعبأ إيطاليا بتلك الانتقادات ومضت باتجاه تفعيل رهاناتها على حكومة الوفاق، عندما سعت لتحويلها إلى “حارس أمني متقدم” لمواجهة الهجرة غير الشرعية، لا سيما مع توقيع مذكرة تفاهم مع نظيره الليبي فايز السراج في فبراير 2017، لتعزيز مكافحة الهجرة غير الشرعية، وتنص على إقامة مخيمات لاستقبال المهاجرين وحضهم على العودة إلى بلادهم، إذا لم تنطبق عليهم صفة اللاجئين، في المقابل، تتعهد روما بتدريب لحرس الحدود الليبي.

وتعرض الاتفاق هو الآخر لرفض حكومة شرق ليبيا ومعارضة البلديات الليبية، بل إن المنظمات الإنسانية مثل أطباء بلا حدود حذرت من أن تلك المخيمات قد تتحول إلى مراكز اعتقال وانتهاك لحقوق الإنسان، في ظل هيمنة النزاعات الميليشياوية على غرب ليبيا. وفي مواجهة ذلك، سعت روما للتلويح بالمساعدات الأوروبية لإعادة بناء البنية التحتية في ليبيا، كما بدا في اجتماع ماركو مينتي الأخير مع عمداء بلديات ليبيا. ولوحظ أن الإيطاليين يركزون أكثر على بلديات الغرب المحاذية للساحل المتوسطي للحد من شبكات تهريب المهاجرين، بالنظر إلى أن مسارات الهجرة تمر من الجنوب الليبي الذي يمثل مدخلا للمهاجرين الأفارقة إلى مدن الغرب ثم باتجاه السواحل الإيطالية.

وقد يفسر هذا المسار لتهريب المهاجرين توغلا إيطاليا آخر باتجاه الجنوب الليبي، ففي نهاية مارس 2017، رعت وزارة الداخلية الإيطالية اتفاق مصالحة بين قبيلتي التبو وأولاد سليمان في جنوب ليبيا بغرض السيطرة على الحدود ومنع اقتصاديات التهريب بحضور ممثلين عن الطوارق وحكومة الوفاق الليبي، بل إن الحكومة الإيطالية تعهدت بدفع قيمة تعويض المتضررين من الجانبين.

وتمددت روما أكثر في الجنوب الليبي مع تلقيها دعما من منظمة سانت إيجيدو الكاثوليكية التي تدخلت بدورها في الوساطة المحلية بالمنطقة، إذ رعت إعلانا مشتركا في 18 إبريل 2016 بين ممثلي الطوارق (الحراك الوطني لشباب الطوارق) والتبو (المجلس الأعلى لثوار قبائل التبو) في الجنوب الليبي بعد مفاوضات في روما لدعم حكومة الوفاق، بل إن سانت إيجيدو لعبت دورا في عقد اتفاق للمصالحة في 8 ديسمبر 2016 بين مصراتة والزنتان بعد استضافة ممثلين لهما في روما.

انفتاح على الشرق

لأن تحركات إيطاليا في غرب وجنوب ليبيا لا يمكن عزلها عن الشرق، مارست روما انفتاحا تدريجيا على المشير خليفة حفتر. وتعززت مؤشرات الانفتاح الإيطالي على الشرق مع مشاركة روما في إجلاء جرحى للجيش الوطني الليبي من قاعدة بنينة في بنغازي في إبريل 2017، إضافة إلى إبداء السفارة الإيطالية لرغبتها في افتتاح قنصلية لها في بنغازي لتسهيل سفر المواطنين لها في مسعى للتوازن مع خطوة إعادة فتح سفارة روما في طرابلس في يناير 2017.

الحاصل أن الأدوار الأمامية الإيطالية اصطدمت باتساع السيطرة الميدانية “للجيش الوطني” الليبي من مدن الشرق إلى الهلال النفطي في الوسط، ثم مؤخرا باتجاه الجنوب، ولا سيما الجفرة، وسبها مع مطلع شهر يونيو 2017، الأمر الذي يضغط بدوره على مصالح روما في منطقة الغرب أو الجنوب، علاوة على تعثر الطموح الإيطالي في بناء قوة أمنية موحدة في الغرب الليبي توازن قوة الجيش الوطني في ظل الهشاشة الأمنية لحكومة السراج وتعثر إنفاذ قوة الحرس الرئاسي، والأهم تراجع قوة مصراتة بسبب الخلافات الداخلية حول تأييد حكومة السراج أم الغويل.

ناهيك عن أن التعويل الإيطالي على إدارة ترامب اصطدم بسعي الأخير للنأي عن دور في ليبيا باستثناء مكافحة الإرهاب، وكذلك بروز الدور الروسي الذي يمثل قيدا على تحركات إيطاليا ليس فقط لأن موسكو أكثر ميلا “للجيش الوطني” الليبي، ولكن كذلك لأن روما تشكل محطة لتوزيع الغاز الروسي إلى أوروبا، عبر شركة غازبروم.

أما المعضلة الأكثر تعقيدا أمام السياسة الإيطالية، والتي تفسر مساعي روما لاستيعاب الدورين المصري والجزائري، فتكمن في كيفية إدارة مصالحها في ليبيا، بما لا يؤثر على علاقاتها مع هذين البلدين في مجالات الطاقة ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، بالنظر إلى طبيعة ملفات المنطقة التي تعمل بمنطق “الأواني المستطرقة”، فكلها تتأثر ببعضها البعض، بسبب حالة النفاذية الحدودية التي خلفتها الأزمة الليبية.

 

 

 

يمكنك قراءة الخبر في مصدره

اترك تعليقا