هل ينجح غسان سلامة في ليبيا حيث فشل أسلافه؟

0

ليبيا المستقبل (عن الجزيرة – محمد عبد الله الحبيب): يتسلم وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلوم السياسية غسان سلامة مهامه على رأس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في وقت بلغت فيه الأزمة الليبية ذروتها، واشتبكت فيها خيوط المحلي بالإقليمي بالدولي، وتداخلت مع أزمات كثيرة في المنطقة والعالم. على الصعيد المحلي يعاني الاتفاق السياسي الموقّع في مدينة الصخيرات المغربية (17 ديسمبر/كانون الأول 2015) من حالة احتباس، جراء رفض البرلمان التصديق عليه مدفوعا برفض اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يُحكم قبضته العسكرية على أغلب وأهم مدن الشرق الليبي، بما فيها مدينة طبرق مقر البرلمان. وتنحصر سيطرة حكومة الوفاق المعترف بها دوليا في العاصمة طرابلس ومحيطها، مع تنامي النزعة الرافضة لاتفاق الصخيرات في الغرب والوسط الليبي؛ حيث نفوذ المجموعات المتمسكة بالخط التقليدي لثروة 17 فبراير.

وقد زاد من تعقيد الوضع دعوةُ رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج إلى انتخابات في مارس/آذار المقبل، وهي انتخابات من الصعب تصور حصولها دون حدوث اتفاق مع معسكر خليفة حفتر، ومجلس النواب الذي يسيطر على مدن منطقة الشرقية. ومن غير المتوقع أن يسمحوا بانتخابات لم يَدعوا لها وهم يعتبرون أنفسهم السلطة الشرعية في البلاد، خاصة أن هذه الانتخابات ستأتي ببرلمان جديد بديل. ما على الصعيد الإقليمي والدولي؛ فيبدو الفاعلون منشغلين بالأزمة الخليجية التي أعقبت إعلان دول خليجية محاصرة قطر، مما يضع التوازن الإقليمي هناك -الذي ظل يحفظ شيئا من التوازن في الساحة الليبية- أمام تحديات غير مسبوقة.  في المعسكر الغربي؛ لا يزال صانع القرار منشغلا بالتحديات التي طرحها تسلم دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة، وتضارب أولوياته السياسية مع أولويات الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، علاوة على علاقته الملتبسة مع روسيا فلاديمير بوتين.

قاعدة تغيير المبعوث

دأبت الأمم المتحدة -منذ سقوط معمر القذافي- على استبدال مبعوثها إلى ليبيا كلما شعرت بوصول جهوده لحلحلة الأزمة إلى طريق مسدود، بسبب استعصاء الأزمة، أو بسبب موقف بعض أطراف الصراع من شخص المبعوث. في أغسطس/آب 2014 عزل الأمين العام للأمم المتحدة المبعوث الأممي لليبيا اللبناني طارق متري، عندما وصلت الحملة التي شنها عليه الإعلام الموالي لخليفة حفتر ذروتها (تيار عملية الكرامة)، جراء دعوته لحوار سياسي بُعيد انتخابات مجلس النواب التي يقول هذا التيار إنه أحرز فيها فوزا ساحقا؛ إذ اتهم إعلامه متري بالانحياز لتيار الإسلام السياسي لمحاولة تعويضه عن الخسارة التي مُني بها في الانتخابات. وبعد سنة من تاريخ نهاية مهمة متري (أي 29 يوليو/تموز 2015)؛ عزل الأمين العام للأمم المتحدة الإسباني برناردينو ليون إثر تسريب صحيفة الغارديان البريطانية مراسلات له كشفت تعامله مع سلطات أبو ظبي ومحاولته تمرير أجندتها في الملف الليبي، وعُين بعده الدبلوماسي الألماني مارتن كوبلر، الذي أنهى مشوار ليون وأشرف على توقيع الاتفاق السياسي بالصخيرات.

لكن جهود كوبلر توقفت عمليا عند نقطة التوقيع؛ فلم يستطع تليين موقف البرلمان ولا موقف خليفة حفتر -الذي التقاه أكثر من مرة- تجاه الإقرار النهائي للاتفاق ومنح الثقة لحكومة الوفاق، كما لم يستطع كبح جماح التدخل المصري الإماراتي الذي يضغط باتجاه تأزيم الوضع في ليبيا، وفق منطق يستثمر في الفوضى ويحول دون أي حلول من شأنها إنهاء الصراع، وبداية مسار بناء الدولة. كان متوقعا إذن وفق القاعدة الأممية هذه أن يتنحى مارتن كوبلر، ويترك مكانه لشخصية يختارها الأمين العام للأمم المتحدة، وتنال ثقة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لكون البعثة تعمل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

يمكن اعتبار ترشيح غسان سلامة إصرارا من المبعوث الجديد على تكليف شخصية عربية بالمهمة؛ فقد رشح الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس رئيسَ الحكومة الفلسطينية السابق سلام فياض، لكنه قوبل بفيتو أميركي في مجلس الأمن. ورغم وجاهة اختيار شخصية عربية بإمكانه استيعاب المزاج الليبي، وفهم تداخلات العلاقات في المنطقة بشكل أفضل؛ فإنه يواجه عقبة تتمثل في سهولة اتهام الشخصيات العربية بالانحياز إلى هذا المعسكر لإقليمي (وبالتالي المحلي) أو ذاك. وذلك نظرا لسهولة القراءة في الخلفيات، وحضور منطق التآمر في منطقة تمزقها الأزمات، وتعرف حالة استقطاب إقليمي غير مسبوق، منذ اندلاع المواجهة بين داعمي ثورات الربيع العربي ومعارضيها.

تاريخ من المراوحة

يلخص المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا طارق متري أزمة البعثة الأممية في عاملين متناقضين يتنازعانها:

1- أن مجلس الأمن -الذي تتبع له البعثة- لا يمكن أن يتخذ قرارا بشأن ليبيا، لأنه يعاني من حالة انقسام شديد في الموقف من الأزمة الليبية؛ فبعد قرار التدخل الذي انتزعته فرنساوالولايات المتحدة مدفوعة بحالة الارتباك جراء اندلاع ثورات الربيع العربي؛ لن تقبل روسيا -التي اعتبرت أنها خُدعت بذلك القرار- صدور أي قرار جدّي بشأن ليبيا.

2- النظرة المزدوجة لليبيين إلى البعثة؛ فهم يريدون منها القيام بأكثر مما في إمكانها، ويتحسّسون من تدخلها لكونها تمثل إرادة خارجية. (عرض متري هذه الرؤية في محاضرة منشورة على اليوتيوب، وشرحها باستفاضة في كتابه: “مسالك وعرة.. سنتان في ليبيا ومن أجلها”).

إن من يتابع الخطاب الإعلامي والسياسي الليبي بشأن دور البعثة يدرك بجلاء دقة توصيف متري؛ ففي حين ترد -في كل البيانات السياسية ومن كل الأطراف- دعوة المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى تحمل مسؤوليتهما تجاه الوضع في ليبيا، نجد لدى أغلب الأطراف في ليبيا نزوعا إلى توصيف تصرفات المبعوث الأممي -حين لا تتماشى مع رؤيتهم للأحداث- بأنها “تدخل خارجي” و”انتداب جديد”! جعل هذان العاملان -وغيرهما من نوازع الانقسام، وحالة التشظي التي تعانيها القوى السياسية والعسكرية، والتعقيدات المحلية الشديدة- مأموريات المبعوثين الأمميين في ليبيا تاريخاً من تراكم المراوحة.

ورغم تمكّن الجهود المتراكمة للمبعوثين الثلاثة السابقين (دعا متري إلى الحوار، وأنجز ليون مسودة الاتفاق، وأشرف كوبلر على التوقيع) من إنجاز توقيع أغلب أطراف الأزمة الليبية على اتفاق الصخيرات؛ فإن الهدف من توقيع الاتفاق لم يتحقق، وربما ظل على نفس المسافة التي كان عليها يوم إطلاق الحوار نهاية 2014. فقد ظل الانقسام السياسي على حاله، كما ظلت وتيرة العنف تصعد تارة وتنخفض أخرى متأثرة بعوامل مختلفة، وظل الاقتصاد الليبي يواصل حالة التدهور مراكما الأعباء على كاهل المواطن، واستمرت هيبة الدولة في التلاشي؛ فهل يمكن لغسان سلامة أن يتجاوز حالة المراوحة هذه؟ وما هي شروط تحقيق ذلك؟

بين الفرص والمخاوف

يمتلك غسان سلامة خبرة في ملفات المنطقة، ووعيا دقيقا بالمعادلات الدولية تشي به كل مداخلاته وما يُنشر من كتابات، كما يمتلك شخصية ثرية فكريا وثقافيا، فهو دارس للقانون وللعلاقات الدولية والآداب، وأستاذ جامعي ومحاضر في أكثر من مجال. وهو صاحب خبرة في العمل تحت السقوف الأممية، كسبها بعمله مستشارا سياسيا للبعثة الأممية في العراق إثر الاحتلال الأميركي له عام 2003، وهو إلى هذا وزير سابق في لبنان، ومتابع جيد لتطورات الربيع العربي. مع هذه المميزات؛ ليست مؤكدةً قدرتُه على تسويق نفسه بوصفه مثقفا وسياسيا ودبلوماسيا عربيا ليست لديه أجندة خاصة تجاه الملف الليبي، نظرا لعلاقته بحكام دولة الإمارات المنخرطين في الشأن الليبي.

والذي يُتهمون على نطاق واسع بأنهم من ضمن مقوضي الاستقرار بدعمهم العلني لخليفة حفتر، وبمحاولاتهم التي كشفتها الغارديان لاستمالة المبعوث الأممي السابق الإسباني برناردينو ليون. وقد نال سلامة جائزة الشخصية الثقافية في معرض الشارقة للكتاب سنة 2016، كما حاز جائزة مهرجان أبو ظبي لهذا العام قبل شهر من تعيينه في منصبه الأممي الجديد. بعد مرور شهرين على اندلاع الثورة الليبية؛ وصف غسان سلامة -في مقابلة تلفزيونية مع قناة “فرانس 24”- ما يحدث في ليبيا بأنه حرب أهلية، وهو توصيف قريب مما يُفهم من تعامل القوى الغربية اليوم مع الملف الليبي. وقلَّل في ذات المقابلة من أهمية دور الغرب في ثورات الربيع العربي، ولكنه يناقش بوعي المعادلات الدولية الخاصة بالمنطقة العربية. إذا كان في شخصية سلامة وثقافته وتجربته ما يمكن أن يدفع بمهمته في ليبيا إلى إحداث اختراق؛ فإن العوائق الذاتية في الأزمة الليبية تظل هي ذاتها. وبالإضافة إلى التعقيدات التي تتصاعد يوميا، فإن هناك موازين قوة إقليمية شبه مختلة تقريبا لصالح عدم الاستقرار.

فمعسكر الإمارات ومصر يتصرف بكل الوسائل لتحقيق أجندته في ليبيا، ولا ينظر إلى التوافق الليبي كشرط لتحقيق هذه الأجندة، بل قد يذهب أبعد من ذلك فينظر إلى التوافق باعتباره عائقا في طريق تحقيقها. وفي مقابل هذا المعسكر؛ فإن قطر وتركيا -وإلى حد ما الجزائر- منشغلة بملفات أخرى، مثل أزمة حصار قطر، والتغييرات الدستورية في تركيا، وملف الأمن في الصحراء بالنسبة للجزائر. وهي عوامل لا تساعد على توسيع دائرة التوافق بشأن الاتفاق، أو إرغام معسكر حفتر على قبول الاتفاق السياسي والدخول تحت سلطة الحكومة المعترف بها دوليا. يبقى أمام غسان سلامة العملُ مع الأطراف الدولية، إن رغب في خلق نوع من التوازن يسمح له بإحداث اختراق في الساحة الليبية، ولن يكون أمامه لإحداث هذا التوازن -في ظل وضع صانع القرار الأميركي وغياب عقيدة سياسية لدى ترمب- إلا التوجه نحو روما، لأن الموقف الفرنسي قريب من موقف الإمارات ومصر.

لكن المشكلة تكمن في أن إيطاليا أصبحت تفضل العمل بنفسها في ليبيا، ولن تعوّل كثرا على عربي قادم من فرنسا، ومحكوم الإرادة بقرارات مجلس الأمن الدولي المنقسم على نفسه، في الوقت الذي تعد نفسها الأكثر تضررا من الأزمة الليبية اقتصاديا وأمنيا، فهي أكثر الدول اعتمادا على الطاقة الليبية، وأكثرها استهدافا بالقوارب المحملة بالمهاجرين القادمين عبر ليبيا. لا يبدو -وفق هذا التوصيف- أن سلامة سيجد فرصا كثيرة لتحريك الراكد في الأزمة الليبية، وربما سيجد نفسه لاحقا بمواطنه طارق متري ومغادرا ليبيا بصمت، إن لم توقعه علاقاته في الدائرة التي سبقه إليها الإسباني برناردينو ليون، ويغادر بفضيحة انحياز مدفوع الثمن إلى أحد أطراف النزاع. ومع أنه من المبكر الجزم بأرجحية فشل سلامة أو نجاحه؛ فإن المؤشرات المتوافرة -إلى حد الساعة- لا تعطيه أفضلية تسمح له باختراق التحصينات التي كانت تقف عقبات أمام المبعوثين الأمميين الذين سبقوه.

 

 

 

يمكنك قراءة الخبر في مصدره

اترك تعليقا