في مديح الأب.. “إنتم ما تخلصونيش دموع”

0

في سنة 1904 م . ولد والدي الحاج الأمين المختار قباصة البشتي
في سنة 1911 م . أستشهد والده المختار في معركة الهاني الشهيرة , وعمره لا يتجاوز السابعة ..
و كان عليه أن يواجه الدنيا وحيداً وليعاني حياة اليتم والحرمان , وهو في الخامسة عشر زُوِجَ من إحدى بنات أعمامه , وأنجب منها ولدين : محمد والمختار .
في منتصف الاربعينيات من القرن الماضي تزوج أمي تركية المنير ..
منذ وعيت على الدنيا لاحظت علاقة أبي المضطربة مع ولديه محمد والمختار ؛ لم يغفرا له أبداً تركه لأمهما وزواجه من أخرى رغم أن ذلك كان شائعاً في ذلك الزمن ..
نتيجة لظروف اليتم والحياة الصعبة طور والدي شخصية يغلب عليها طابع الشدة والقسوة . كان قليل الابتسام , ونادراً ما رأيته يضحك .. هذه الطبيعة الشخصية لم تمكنه من تكوين علاقات حميمة مع أقاربه , ولا أن يكون له أصدقاء كثر .
غير ذلك فقد كان شخصية عظيمة , فارساً نبيلاً , رمزاً للشهامة والشجاعة والمروءة , رجلاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى , معتداً وذا أنفة ..
نتيجة للجفوة بينه وبين ولديه محمد والمختار , فقد كنت عمليا ابنه البكر وكثيراً ما كان يحدثني ويعيد الحديث عن تاريخ حياته الحافل بالمصاعب والمتاعب ..
في الستينيات انتعشت الحياة المعيشية للأسرة وبدأ الأولاد يكبرون ويكبر معهم الأمل ..
ولكن القدر الإغريقي الرهيب كان له بالمرصاد ؛ ففي أبريل 1973 م . أصيب بنكبة ومحنة العمر , حيث أعتقل أبناءه الثلاثة عبد الفتاح وعبد العظيم والطاهر … ولتبدأ مرحلة جديدة من الألم والمعاناة والأحزان .
في إحدى المرات أعتقد في سنة 1978 , أو 1979 , ومع أننا كنا لا زلنا في السجن المدني فقد طلب زيارة خاصة من آمر السجن العسكري , محمد القمودي وكان من الزاوية , ترك لنا المكتب , وبقينا لأكثر من ساعة وهو يبثني ألمه وشكواه وقهر الزمان وعجزه وعذاباته وأسرار معاناته ..
حاولت طمأنته والتهوين عليه قدر ما استطعت ؛ وستبقى تلك الشكوى المرة المعذبة حبيسة صدري إلى الأبد ..
كان عمره حينها يناهز السبعين , وعندما خرجنا أخيراً من السجن بعد 15 عاماً كان عمره 84 سنة ..
كان خروجنا من السجن هو الأمل الوحيد المتبقي له في رحلة العذاب الطويلة , ولكن حتى فرحة الخروج تلك خالطتها ، ويا للاسف ، بعض مشاعر الحزن و الاسى ،
فالسجناء والذين تمت أسطرتهم كأبطال عظام رائعون في مخيلة أسرهم ومعارفهم وأصدقائهم كانوا في الواقع قد استنزفتهم سنوات السجن الطويلة القاسية ؛ فخرجوا إلى العالم مرهقون , يعاني معظمهم من مشاكل صحية طالت الجسد والروح ,
هذا فضلا عن مصاعب وتعقيدات التوافق مع الدنيا والناس بعد 15 عاما من العزلة .
في مايو 1990 م . تزوجت , وسافرنا أنا وزوجتي فوزية خبيزة لنقضي شهر العسل في بودابست , بعد رجوعنا بأيام قليلة _ ولكأنه كان طيلة تلك السنوات في انتظار تلك اللحظة _ جاءني وابدى رغبته في أن يسكن معي في البيت ..
كنا نقيم بشكل مؤقت في الطابق العلوي لبيت أخي الطاهر , ولم يكن به سوى حجرتين ، تقاسمناهما .. بعدها بحوالي سنة ونصف انتقلنا إلى بيتي الخاص ولم يغادرني والدي منذ رجوعي من شهر العسل وحتى وفاته رحمه الله في 5 يناير 2003 ، عدى بعض الزيارات والاقامات القصيرة لدى أولادة وبناته ..
لم يتغير الحاج الأمين حتى آخر أيامه من ناحية جبروته وطباعه القاسية ،
ولكن ذلك القناع القاسي كان يخفي وراءه وجهاً آخراً , ففي إحدى المرات وكنت أتبادل معه أطراف الحديث وأحثه على سرد ذكرياته , والتي كان دائماً يتألق وهو يرويها المرة تلو المرة ، فأجأني بعبارة هي إلى القصيدة أقرب ؛ قال لي ” أنتم يا ولدي ما تخلصونيش دموع ” ..
إذاً كان هذا الرجل يبكي هو أيضاً , بل لقد بكي كثيراً إبان سنوات سجننا وبهدلته في الزيارات بين السجون والمعتقلات , وألأم الفراق , وانقطاع الرجاء وخذلان الاصدقاء وشماتة بعض الأقارب من حوله ..
إذاً لقد بكي هذا الرجل كثيراً , بل أن ما سكبه وما نزفه من دموع لن توازي في زنتها وفي مقدارها كل ما قد نفعله من أجله ..
في أخريات أيامه أصيب بخرف جزئي , وفي النهاية لم يعد يتحكم في قضاء حاجته فدخلنا مرحلة ( الحفاظات) , وكنت أنا من يبكي حينها وتترقرق عيناي بالدموع كل ما غيرت له أو ساعدته على الاستحمام .. وأتأمل هذا المصير الحزين لرجل كان يوماً عتياًّ مرهوباً وذو أنفة .
ولكن المشهد الأخير كان الأقسى والأشد وطأة علينا كلانا ؛ فقد توفي أخي محمد , وكانت جنازته في الغد , ولكن في ذلك اليوم تحديداً ( ولم أخبره بوفاة ابنه ) أصيب والدي بانخفاض حاد في ضغط الدم , أخذته للمستشفى على عجل حيث تم تحويله للعناية الفائقة , جاء الأخصائي وقام باللازم , وطمأنني بأن حالته ستتحسن وليس هناك من خطر .
كانت جنازة أخي محمد عصر ذلك اليوم , في الساعة الرابعة والنصف , بقيت مع أبي في حجرة العناية الفائقة حتى الساعة الثالثة والنصف , كان يتنفس بصعوبة ولكنه كان واعياً ويمسك يدي بقوة , لا يريدني أن أغادر , ولكن كان عليّ أن أحضر الجنازة , والطبيب طمأنني على حالته , وفوق ذلك فأني لن أتركه سوى ساعة أو ساعتين ..
سحبت يدي منه ولازلت إلى هذه الساعة أتذكر تلك النظرة المليئة بكل ما تحمله الدنيا من خوف وتوسل ..
بعد حوالي الساعة , وانا في طابور التعزية فجعت بخبر وفاته ..
توفي الحاج الأمين واستراح , ولكن تمسكه بيدي وتلك النظرة الخائفة المتوسلة ستبقى غصة في القلب لن تفارقني ما حييت ..
من أغرب وأعجب الأمور إنه ذكرلي مرة أن الشيخ عبد الرزاق البشتي الشاعر والرجل الأزهري الطيب المتواضع والذي كان يوماً رئيساً للمحكمة الاتحادية العليا إنه قال له ( أنت يا لامين مثل أبو ذر الغفاري , ولدت وحيداً , وتعيش وحيداً , وتموت وحيداً ) ..
رحمه الله والدي الحاج الأمين , ذلك الرجل الأسطوري العظيم وأسكنه فسيح جناته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

لقراءة المقال كاملا ارجوا مطالعة المصدر 

اترك تعليقا