عفاريت عدلي “إمام”

0

218TV.net *مقال خاص

سالم العوكلي

من ضمن عاداتي الرمضانية متابعة المسلسلات الدرامية التي يكتظ بها هذا الشهر، من باب المتعة ، أو من باب تجزئة الوقت الذي يمر بطيئاً، أو من باب رد الجميل لهذا الحشد من الفنانين الذين عملوا لأشهر  من أجل أن يرفهوا على الناس في هذا الشهر الذي لا تنام فيه الليل أمة كاملة ، ما يجعل هذا الهجوم من الأعمال الدرامية نوعا من التجارة الفنية التي تستثمر في السهر حيث يتحول الليل إلى مهرجان تسوق شمال، من الزلابيا إلى الدراما .

أحب الممثل عادل إمام لأنه يجعلني أضحك، وأنا من الذين يعتبرون الضحك في حد ذاته هدفا من أهداف الكوميديا، بغض النظر عما يقال من كلام مدرسي عن الكوميديا الهادفة، أو الكوميديا التي تحمل رسالة ، وهو شعار عربي بامتياز يعمل بقوة في مجتمعات مازالت تتطير من الضحك وتعتبره قلة أدب حين لا يكون له سبب والسبب عادة ما يكون مغزى، رغم أن المجتمعات الحديثة بدأت تنظر إلى الضحك كقيمة في حدا ذاته بل كعلاج فعال لكثير من الأمراض، النفسية خصوصا.

شعار الكوميديا الهادفة أو التي تحمل رسالة خرج بهذا الفن إلى مجال الدروس التربوية ، فاضمحل فيها الضحك لحساب الموعظة ، وهذا التحول يجعلها تلقائيا كوميديا ثقيلة الدم، كما في الكثير من حلقات المسلسل الكوميدي الذي يعلن من مقدمته أنه كوميدي (سيلفي) والذي يشترك فيه مجموعة من الممثلين الموهوبين ، لكن الانشغال بالجانب الوظيفي للكوميديا أو بالرسالة والموعظة ينقله من دائرة الفكاهة إلى مجال الخطابة المباشرة الثقيلة على النفس، لأن الكوميديا في جوهرها هي فن القبض على المفارقة الفكهة، وهي التي تستطيع أن تكتشف أن في داخل كل إنسان منا جانب مضحك حتى هو في أقصى درجات جديته، وهذا ما نجحت فيه بعض الحلقات.

من هذا المنطلق أحببت أعمال عادل إمام لأنه ممثل كوميدي بارع مكتف بذاته وبقدراته الإيمائية وتعابير وجهه، وقدرته على إضحاكنا حتى وهو يقدم دراما موضوعها الإرهاب . لكن ما شجعني على الكتابة عن مسلسله هذا العام “عفاريت عدلي إمام” الندوة التي قدمها برنامج وائل الأبراشي في قناة دريم2 حول ظاهرة الشعوذة والجن التي ظهرت في أكثر من مسلسل،  والتي استضاف فيها أحد المشعوذين وناقداً درامياً وطبيباً نفسانياً، حيث ركز المشعوذ في الندوة على ما سببه هذا العمل الكوميدي من مشاكل في القاهرة والأسكندرية وغيرها بسبب استفزاز الطلاسم الحقيقية التي قرأها (عدلي علام)  لمملكة الجن ، وبدل الحديث عن الدراما والفن والمخيلة والفانتازيا انتقل السجال إلى حقيقة وجود السحر والجن من عدمها. الطبيب النفسي الذي لا تفصله مسافة طويلة عن المشعوذ أقر بوجود السحر الأسود والجن، ولكنه استشهد ببعض العلماء الإنجليز فيما يخص الأمراض النفسية التي نعتقد أنها نوع من المس، لكنه كان يكرر لازمته بين قوسين (دا العلماء الإنجليز اللي بيقولوا كده موش أنا ) وكأنه يتبرأ من هذه البدع العلمية في مواجهة مشعوذ جاهل يعتبر أن كل أزمات مصر لها علاقة بالسحر وبالجن .

ذكرني هذا الموقف بحشد رأيته مرة بجانب ميناء درنة بعد سبعة أيام من انتفاضة فبراير، وحين اقتربت لأرى سبب تواجد هذا الزحام لمحت جرافة تزحزح صخرة كبيرة، وحين سألت أحد الأشخاص عما يجري، قال لي تحت هذه الصخرة وضع القذافي سحره لمدينة درنة والآن بمساعدة بعض الشيوخ يتخلصون منها، ضحكت، لكني بمجرد أن رأيت علامات الجدية على وجهه، أطلقت ساقي للريح مملوءا بالخوف من عاقبة هذه الثورة ، ولعل أحوال درنة الآن تمت بصلة وثيقة لحكاية هذه الصخرة وطبيعة العقل الغالب الذي يبدأ في ظله التغيير.

أما الناقد الدرامي الذي استضافه الأبراشي فكان يستشهد بكلام الشيخ متولي الشعراوي على أن صلة الجن بالإنسان توقفت منذ سيدنا سليمان ، والمشعوذ كان يستشهد بأحاديث أسمع بها للمرة الأولى عن حقيقة الجن والمس والسحر الأسود، وفي هذا الحوار العبثي ضاعت رؤية الكاتب، يوسف معاطي، وضاع عادل إمام وابنه رامي، المخرج، الذي استغل هذا العالم الغريب لاستعراض قدراته الفنية والتقنية، والأهم من كل ذلك ضاع المفهوم الجوهري للكوميديا، وأصبح الأمر كمن يخبرك بنكتة، وبدل أن تضحك تذهب إلى تحليل هذه النكتة منطقيا ومدى علاقتها بالواقع . الناقد الدرامي كان ضد العمل عبر شعوذة مختلفة بكون العمل من المفترض أن يعرف عقلية الناس ومرجعيتهم قبل أن يتوجه إليهم، وأن الناس كما رآهم هو في مستوى من الجهل ليصدقوا عالم الجن عبر هذا المسلسل الكوميدي.

لقد حاكموا جميعا عملا يستخدم الفانتازيا الشعبية وكأنه عمل تاريخي أو محاضرة فكرية، وكان يكفي أن يقال أن هذا عمل كوميدي يستوعب كل هذه الشطحات التي نجدها حتى في النكتة الشعبية بغزارة. يقدم المسلسل عالم الخرافة في إطار من السخرية، ولاشيء يقوض المقدس سوى السخرية، أو كما يقول ميلان كونديرا: “حين يميل العبوسيون إلى أن يروا في كل مزحة تدنيسا للمقدس، فذلك لأن كل مزحة هي في الواقع انتهاك للمقدس . ثمة تعارض نهائي بين الهزلي والمقدس”.

 اعتبر هذه هي الرسالة الخفية للعمل، رغم أنه لم يخل من رطانات سياسية مباشرة وضعت الكثير من القداسات السياسية في قلب الشعوذة وفي سياق هزلي، الوزراء ، النواب، رجال الأعمال، المشعوذون السياسيون، الإعلاميون، المثقفون المأجورون، وغير ذلك مما دخل حيز الهزل أو حيز السخرية الحادة. نحن عادة نحيل كل ما لا نفهمه إلى عالم الخرافة والقوى الغيبية، وفي مصر يصفون الفهلوي بالعفريت، وهذا ما رصده يوسف معاطي أمام أزمات سياسية واجتماعية يصعب فهم أسبابها في غياب الدراسات والبحوث والعقل العلمي، فخلطَ العالم الواقعي بالعالم الخرافي، الإنسان بالجن، المكائد بالسحر، وأعاد لمفهوم الجنون الشامل الذي يكتسح المرحلة اعتباره في مجتمع مازال يتحدث فيه الطبيب النفسي عن حقيقة السحر، ويستشهد بالنظريات العلمية بنوع من الخجل، مثل ضيف الأبراشي، أو يعتبر فيه ناقدٌ درامي مختص أن مثل هذه الأعمال الفنية خطرة على المجتمع لأنه ساذج أو جاهل وسطحي المرجعية.

لم ينته المسلسل بعد، ولا نعرف كيف سيحسم الكاتب هذه المسألة التي مازالت في صميم التناقض الدرامي، باعتبار المثقف النزيه عاشق الكتب يعيش داخل عالم الخرافة والجن، بل يستعين به من أجل دعم مبادئه. كيف سينهي يوسف معاطي عالمه الخرافي الذي حرك مفاصل العمل الدرامي ، أو كيف يبرره فنيا ومعرفيا ؟ أم سيكتفي بكون الكوميديا مثل النكتة لا تحتاج إلى أي نوع من الإقناع المنطقي لمتلقيها الذي عليه أن يضحك أولا ثم يفكر ثانيا في مرسلاتها إن كان لها مرسلات ينتظرها مروجو فكرة الكوميديا الهادفة الذين يصفهم كونديرا بالعبوسيين.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص 218

 

لقراءة المقال كاملا ارجوا مطالعة المصدر 

اترك تعليقا