نِعم الله

0

محمد عقيلة العمامي

عايشتُ مخبزا فرنسي تطور سريعا وأصبح مقهى ومطعم لوجبات خفيفة، ثم صار سلسلة انتشرت في العالم اسمه (Paul)؛ أغراني رغيف أسمر معروض في واجهة محل في شنغهاي، سنة2005، ثم انتبهت، فيما بعد، إلى انتشاره في معظم عواصم العالم.

قرأت، مؤخرا، مقالا عن مخبز يمتلكه مواطن فرنسي اسمه (ليونيل بوالان) اشتهر، فأصبح خبزه يشحن بالطائرات مرتين في الأسبوع من باريس إلى طوكيو، ويوميا لأنحاء العالم فاعتقدت أنه صاحب سلسلة مطاعم(بول)، فاتجهت إلى (جوجل) لأكتشف أنه مخبز ثان لا علاقة له بمطاعم بول.

غالبا ما يحن المرء لما اعتاد عليه من خبز في موطنه خصوصًا إن ابتعد عنه

عائلة بولان واظبت على إدارة مخبزها عبر اثنى عشر جيلا. وفيما تطورت صناعة الخبز، لم تغير عائلة بولان خبزها؛ لا بطريقة طحن الحبوب بالرحى التقليدية، ولا بطريقة خَبْزه، ولا تخميره وفوق ذلك احتفاظهم بالأفران التقليدية. كان للعائلة مخبز واحد، ثم صارت له مخابز تنتج ما يزيد عن خمسة عشر طنا يوميا بالطريقة والمواصفات نفسها. لقد أصبح لخبز بولان اسم تتباهى به مطاعم فرنسا بل والعالم كله. وبالطبع هناك الكثير مما يقال عن كيفية إعداد خبزه، وأيضا عن نسبة استهلاكه اليومي ليس في فرنسا فقط ولكن في العالم كله، خصوصا من بعد أن اعتمد كخبز رسمي لولائم الشانزليزيه.

غالبا ما يحن المرء لما اعتاد عليه من خبز في موطنه، خصوصا إن ابتعد عنه، سواء بالسفر، وغالبا بالاغتراب. في كافتيريا مؤسسة بوابة الوسط، بالقاهرة، غالبا ما نتطرق عند تناول وجباتنا، لأرغفة مخابز (الشارده)، أو (حمادو)، أو (الطرلي)، وأفضل ما يتناسب منها مع “نص التن بالهريسة” الذي يعشقه الليبيون كافة، ويدمنه رئيس مجلس إدارتها حتى صار الليبيون الذين شبوا على ساندويتشات التن بالهريسة، ويعرفون أنه إفطاره اليومي، يطلبونه عند قدومهم لزيارة مجاملة أو رسمية. علاقة الليبيين بساندويتشات التن بالهريسة فرضت نفسها عليهم منذ أن تسرب زيت التن ولوّن أغلفة كتبهم المدرسية في المرحلة الابتدائية، ولو أنك سألت أي مواطن ليبي عن معالم مدينته سيذكر لك أولئك المشاهير الذين تفننوا في هذه الساندويتشات، فمن مِن بنغازي لا يذكر: ونيس بوذراع، وسي محمد الترهوني، وسي عبد الغفار، والعلواني، وشرشر، وأنا متأكد أن كثيرين سيلومون سهوي عن غيرهم.

وبسبب أن الخبز غذاء رئيسي في بلادنا، مثلما هو رئيسي في معظم التجمعات الإنسانية في العالم، أصبح له حيز مهم في ثقافتنا، لدرجة أننا أطلقنا عليه، في ليبيا، اسم (النعمة). وهذا ما جعلنا، في طفولتنا، نتعامل مع بواقي خبزنا بحرمة تصل القدسية؛ كنا نرفع أية كسرة خبز مرمية على الأرض ونقبّلها ونضعها على حافة نافذة مثلا، لأنها “نعمة” من نعم الله علينا وينبغي أن نحترمها، وبلغ الأمر أن أمهاتنا ينبهننا بتلك الزنجية التي مسحت مؤخرة طفلها بكسرة خبز، فعلقها الله في القمر، وكنا نراها عندما تشير إليها أمهاتنا. ولقد علمتُ أن إخواننا المصريين يتعاملون، أيضا، مع الخبز بهذه الثقافة حتى إنهم ربطوه بالحياة فكلمة (عيش) التي يطلقونها على (النعمة) مأخوذة من كلمة المعيشة ذاتها، يعني من الحياة نفسها.

الخبز غذاء رئيسي في بلادنا.. له حيز مهم في ثقافتنا لدرجة أننا أطلقنا عليه اسم النعمة

ومما عرفته من معلومات من (الجوجل)، هو أن كاتب العمود الأسبوعي بجريدة الشرق الأوسط الأستاذ مشعل السديري، كان له مقال عن خبز (ليونيل بوالان) عنوانه ( بالهناء والشفاء) نشر يوم 5/ 7/ 2017 بصحيفة المصري اليوم، وسبق له أن كتب عن هذا الخبز بصحيفته المعتادة الشرق الأوسط بتاريخ 17/ 4/ 2013 تحت عنوان (لا توجد خبزتان وامرأتان متماثلتان). والواقع أنه لا توجد بصمتان متماثلتان، لا في المرأة، ولا في الرجل؛ ولكن اختياره للمرأة؛ أعادني إلى وصفنا للخبز بالنعمة.

صار في صفي كاتب آخر يرى أن المرأة نعمة من نعم الله، ذلك إن كانت جيدة كخبز أمي الذي كان يطحن ويعجن، وتميز أقراصها بعلامه قد تكون “قرصه، أو فروين” ونذهب به إلى الفرن الذي أعد بالطريقة التي أعدت بها أفران (ليونيل بولان)، الذي لا يسقط (القنان) فيها في (العين)، وهي فوهات إحمائها، والقنان يعني في لهجتنا رغيف صغير يخصص للطفل الذي ينقل طبق الخبر إلى الفرن.

 

 

يمكنك قراءة الخبر في مصدره صحيفة بوابة الوسط

اترك تعليقا