في خرافات العقل العلمي وأوهامه

0

كانت مفارقة حقاً، ولعلها تحدث كثيراً في أزمنة العرب الخارجين من التاريخ، أن ينبري «نشطاء» للحيلولة دون انعقاد محاضرة، بذريعة تصادمها مع قيم العلم ونواميسه، فيما غلب على هؤلاء انتسابهم إلى قيم لا علاقة لها بالعلم مــن قريب أو من بعيد، فأي علم، وأية عــقلانية يمكنهما أن تتأتيا عن «نشطاء» كان بعضهم يتسابقون إلى دارة الموت في دمشق لالتــقاط صور مع القاتل الذي أباد شعبه بالكيماوي وصواريخ سكود، فيهنئونه ويقبّلون يديه المغسولتين بالدم؟!
وكيف يمكن لـ «العقل» أن يتعاطى مع من يردّدون صبحَ مساء أكذوبة «المقاومة والممانعة» ويعوّلون الأنفس على أوهام «حق الاحتفاظ بالرد للحظة المناسبة» في كل مرة تسوم فيها إسرائيل «حماة الديــار» سوء المهانــة، فلا يأتي الرد ولن يأتي؟ وكيف تخدش محــاضـرة عـن «البـرق والرعــد في القرآن الكريم» الحساسية العلميــة لدى هؤلاء «الشبيحة»، ولا يصيبهم بالإعياء حديثُ أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في أيار (مايو) الماضي عن أنّ «خروج المهدي باعتــقاد المسلمين هــو أمر قطعي، وسيخرج من مكة المكرمة، وليس من أي مكان آخر وسيواليه أهل الجزيــرة العربية».
وأما حديث الملالي في طهران، كما هو حديث أية دولة ثيوقراطية، فلا صلة له بتاتاً بالعلم والعقلانية، ومع ذلك نرى أنّ حضور إيران والثناء عليها والاعتصام بحبلها يطغى على أية دلائل أخرى لدى معظم أحزاب اليسار العربي المتثائب، وبعض القومجيين والليبراليين ممن تاهت بوصلتهم فارتموا في أحضان يأس العقل وقنوطه.
ولئن كان تنظيم المحاضرات حقاً لكل مؤسسة أو هيئة أو منتدى، فإنّ دعوة آتية من نقابة للمهندسين، ومن لجنتها العلمية الكهربائية، لتنظيم محاضرة عن الإعجاز القرآني في البرق والرعد من شأنها أن تثير حفيظة أشخاص يعتقدون أنّ تداخل الديني بالعلمي واختلاطهما يُفسد الأمرين معاً، وأنّ القرآن كتاب روحاني وليس كتاباً علمياً، أو مرجعاً للتنبؤات الفلكية والفيزيائية.
لكنّ القسوة في رفض المحاضرة والتأليب عليها، بذريعة الحفاظ على نقاء الوعي العلمي، دلّت على انعدام روح التعاطي مع الأفكار المغايرة حتى لو وصل جنوحها إلى الخرافة؛ ففي العريضة الرافضة للمحاضرة، وفي الحملات التي شنها حَمَلة المباخر العلمية على المحاضِر والنقابة ما يوحي بنزعة استئصالية، وأنفاس فاشية، وحرص مبتذل على القواعد والأصول العلمية حتى يكاد المرء يتخيّل أنها صادرة عن نيوتن أو أينشتاين أو ستيفن هوكينغ.
لعلها خاصرة ضعيفة تلك المتصلة بالعلم والدين، ولعل هذا الباب هو الأكثر بعثاً على استعراض الأفكار المجنّحة التي تزعم الحفاظ على سلامة العقل، وصيانة الوعي من الخدش والأذى والتشويه. بيْد أنّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى أبعاد ذات صلة حميمة بالعقل، وبخاصة في جانبه الأخلاقي، فلا يستوي أن تدافع عن القيم العقلانية في الوقت الذي تؤيد القتلة الذين يبيدون المدن والقرى ويسوّون الأبنية الشاهقة وساكنيها بالتراب. إنّ العقل يربأ بهذا السلوك الذي ينتمي إلى ما قبل التمدن والحضارة، بل وإلى ما قبل سكنى الكهوف.
العقل يقتضي الانتصار إلى الإنسان والانتساب إلى آلامه ورفعها فوق أي اعتبار مسبق. الإنسان هو القيمة الكبرى في الكون، والحفاظ على حياته، وتمكينه من إبداء رأيه من دون خوف أو تهديد هو قيمة عظمى أيضاً. أما تفضيل الأيديولوجيا على هذه القيم فهو ذهاب إلى أكثر نقطة معتمة في الوعي، وهي التي تنتج الشرور كلها، فالأفكار الظلامية تهزم العقل، ويهلّل لذلك أصحابها أو جلّهم من دون أن يمارسوا ولو لحظة نقد، أو يحدقوا في أنفسهم. وإذ يفعلون ذلك سيدركون كم ظلموا ذواتهم وظلموا العقل والعلم معاً!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

 

لقراءة المقال كاملا ارجوا مطالعة المصدر 

اترك تعليقا