أشجار الجبل لا تموت واقفة

0

شيخـة سـلَّام

أول ما يتبادر إلى ذهنك وأنت تهمس باسم الجبل الأخضر هو سامقات الطبيعة التي تهبها الأنفة والكبرياء وتضفي عليه الجلال وهي تتربع تحت سماء صافية تمنحها الوقار لأولئك الباحثين عن السكينة. أشجاره الواقفة في شمم هي بعض منّا، تمدنا بالأمن والامتنان وتملأ نفوسنا سموًا وزهوًا، ذلك أن الجبل الأخضر ليس مساحةً تقاس بالهكتار والامتداد، بل هو تاريخٌ وأنفاس، هويةٌ وإرثٌ وتراث.

نشأت غابات الجبل الأخضر بشكل طبيعي خلال القرون العديدة الماضية تحت الظروف السائدة في المنطقة، واستطاعت رغم كل الظروف الطبيعية والحيوية أن تبقى وتتكاثر، وليس ذلك البقاء الفريد رغم الظروف السيئة التي تعرضت لها على مر العصور إلا دليلاً على أقلمتها وقدرتها على تجديد نفسها طبيعيا. غير أن أشد ما يؤلم النفس أن مناطق بأكملها أُزيلت بكافة الوسائل كأن الجميع في حالة حربٍ ضروس ضد الطبيعة، ونذكر على سبيل المثال ( قندفورة ، الخراب ، شخنو ،حبون ، الجهاد ، مراوة ،شمال وجنوب قندولة ، والستلونة ، عمبسة ، الغريقة ،اقفنطة ، الكوف ، قصر ليبيا ، والأنواع التي أُزيلت هي ( العرعر ، البطوم ، الشماري ، الخروب ،الزيتون البري، البلوط ، السرو الطبيعي ، الصنوبر).

غابات الجبل الأخضر ومراعيه وأفنانه منحةُ ربانية لهذه الجغرافية من الوطن، وبقعة الضوء الوحيدة في نهاية نفق طويل مظلم من التصحر واجتياح الحياة النباتية والحيوانية في ليبيا. وهي إلى ذلك مستقبل بيئة نظيفة لأبنائنا، وحمايتها واجب وطني لا يقل أهمية عن حماية الوطن ذاته. خلال الأعوام المنصرمة داهمت الحرائق آلاف الهكتارات من أراض الغابات بالجبل الأخضر، فدق ناقوس الخطر المهدد باندثار هذه الثروة الطبيعية في غفلة من المسئولين والحكومة؛ وكأن الحرائق اندلعت في غابات أسترالية. وقد تعرضت الكثير من الغابات لشتى أنواع العبث والتخريب، التي لم نشهد لها مثيلا من قبل، حيث استُعملت جميع وسائل الإزالة والمسح الكامل، وقد أُزيلت وأحرقت مناطق وغابات عن بكرة أبيها أثناء الثورة. ولنا في بعض النباتات التي انقرضت كلياً من الجبل عبرة، تلك التي كانت أحد رموزه كالسلفيوم البرقاوي المنقرض حالياً، والذي كان من أهم معالم الجبل الأخضر، فأصبح أثرا بعد عين، وذلك ما يمكن أن يتكرر مع بعض النباتات المُميزة للجبل كالعرعر والشماري _ الذي وضعه الاتحاد الدولي لصون الطبيعة بالقائمة الحمراء ضمن النباتات المُهددة بالانقراض _ إذا لم يوضع حد للانتهاكات التي تُمارس عليه عن عمد.

ربما يجهل الكثير منا عن عمد أو قصور في المعرفة البيئية أن الغابات من المصادر الهامة والرئيسية، التي تسهم في رقي وتقدم الإنسان حضاريا وماديا، فهي مصدر قومي للثروات الطبيعية، وترتقي بها إلى الصناعة. فالغطاء النباتي يحافظ على التربة كما يسهم في زيادة معدلات سقوط الأمطار، ويحافظ على نقاء ونظافة البيئة المحيطة بالإنسان، وبالتالي تسهم الغابات في تقدم الصناعة وانتعاش اقتصاد الشعوب.

ولازال الغطاء النباتي في تدهور مستمر بسبب تعرضه لشتّى أنواع العبث والقطع والحرق، حتى نخشى أن نحذف صفة الاخضرار من الجبل فيغدو الأخير منتسبا للون الأصفر أو الأجرد. إن المخيف حقاً أن الأنواع الرئيسية لأشجار الغابات، التي تمثل المراحل المتقدمة من التعاقب النباتي، قد انخفضت قدرتها على التكاثر الطبيعي بمعدلاتٍ غير مناسبة لإكمال دورة حياتها.

إن كل ذلك يجعلنا نتوجه بالاهتمام نحو نبات العرعر الذي يعتبر النبات الأكثر نتشارا في منطقة الجبل الأخضر وهو المميز له، غير أنه غير قادرٍ على تجديد نموه عند قطعه أو حرقه، وذلك ما يمثل خطرا عليه وسببا سريعا لانقراضه. ورغم حملات التوعية الكثيرة التي يقوم بها الباحثون والمهتمون وأولي الاختصاص إلا إنها تمثل صرخةً بوادٍ غير ذي زرع، فلا زالت حملات إبادة الأشجار بهذا الجبل ومن بينها نبات العرعر مستمرة وبشكلٍ ممنهج وبحملات إبادةٍ مستمرة. حتى أنه تم توثيق هذه الإنتهاكات للغابات والأشجار ورفعها إلى أحد المؤتمرات المنعقدة ببريطانيا لتشكيل ضغط دولي لحماية الطبيعة. كذلك نشرت الجمعية الليبية للبيئة تقريرها الميداني لبعض المواقع شملت جنوب ووسط منطقة الجبل الأخضر والتي تم إختيارها عشوائياً في محاولةٍ من الفريق لوضع حلول سريعة وعاجلة للحد من ظاهرة جرف الغابات وبالتالي تحويل كل المنطقة إلى صحراء قاحلة ، ومن خلال الزيارة تبين حجم الدمار الكبير الذي أُلحق بمساحاتٍ شاسعة من أراضي الغابات، مؤكدين أنه في ظل الانفلات الأمني وغياب أجهزة الدولة قام العديد من المنتفعين بالحيازات الزراعية الممنوحة لهم من الدولة باستغلال هذا الفراغ وتعمد جرف هذه الغابات بحجة تحويلها إلى أراضي زراعية وبيع الأشجار المقطوعة كفحم نباتي أوحطب للوقود أو تحويل بقايا عمليات الجرف إلى سياج يحمي تلك الأراضي المجروفة. إن الأرقام المرعبة تتحدث عن نفسها فقد تم إحصاء مساحة الغابات بالجبل الأخضر، فقُدرت بمليون و 400هكتار في ستينات القرن الماضي، بينما في السبعينات تناقصت إلى ستمائة ألف هكتار واضمحلت المساحة في التسعينات إلى ثلاثمائة ألف هكتار، وفي فترة ما قبل ثورة فبراير كانت المساحة التقديرية حوالي 180ألف هكتار، أما الآن وبعد هذه الاعتداءات، فهي بالتأكيد في تناقصٍ مستمر وقد يفوق التوقعات في ظل غياب متابعة وسائل الإعلام وجهات الضبط القضائي، إضافةً لسلبية المواطن وعدم وعيه بأضرار إزالة الغطاء النباتي.

 

 

يمكنك قراءة الخبر في مصدره

اترك تعليقا